أنا الطفلة الثالثة لأمي التي ولدتني و هي في العشرين , و عندما ولدت أخذتني الممرضات إلى حجرة أخرى قبل أن تراني أمي , ثم أخبرها الطبيب الذي أشرف على عملية الولادة بأن ذراعي اليسرى غير كاملة , حيث إن الجزء الذي أسفل المرفق غير موجود , ثم نصحها قائلاً : " لا تعامليها بشكل مختلف عن أخواتها الأخريات , بل اطلبي منها أن تقوم بأشياء أكثر منهن " . و بالفعل عملت أمي بنصيحة الطبيب .
و قد اضطرت أمي للعمل حتى قبل وفاة والدي لتساهم في دخل الأسرة , و كنا خمسة بنات علينا جميعاً أن نساعد في أعمال المنزل ,
و ذات مرة عندما كنت في السابعة تقريباً , خرجت من المطبخ و أنا أصيح غاضبة : " إنني لا أستطيع تقشير البطاطس , فليس لي إلا يد واحدة " .كانت أمي مشغولة , و لما سمعت ذلك لم ترفع نظرها إلي , و وجدتها تقول لي :
و بالطبع استطعت أن أقشر البطاطس حيث كنت أمسك السكين بيدي السليمة و أمسك البطاطس بعضد ذراعي الآخر . لقد كانت أمي تدرك أنه لابد أن تكون هناك طريقة , إذ كانت تقول : " لو بذلت قصارى جهدك فسيمكنك فعل أي شيء " .
و عندما كنت في الصف الثاني الابتدائي , خرجنا يوماً إلى ساحة المدرسة في حصة الرياضة , و وجدت جميع الأطفال يتسلقون ألعاباً على شكل إطارات و قضبان , و هم يتأرجحون من مكان لآخر في الهواء , و عندما جاء دوري خفت و تراجعت مما جعل الأطفال الآخرين يضحكون علي , فعدت إلى المنزل و أنا أبكي .
و في الليل أخبرت أمي بما حصل في المدرسة , فضمتني و رأيت في عينيها نظرة إصرار و كأنها تقول : " سوف نرى " . و في اليوم الثاني عندما جاءت لتصطحبني أمي من المدرسة في نهاية الدوام , وقفت في فناء المدرسة الخالي و أخذت تنظر بإمعان إلى إطار التسلق و قضبانه الحديدية .
ثم بدأت أمي توجهني و تقول : " و الآن حاولي أن تتسلقي باستخدام ذراعك اليمنى " , و وقفت بجواري و أنا أحاول جاهدة
أن أرفع نفسي باستخدام ذراعي و مرفقي الأيسر , و أخذت تذهب معي كل يوم لأتدرب على صعود إطار التسلق , و كانت تشجعني كلما صعدت درجة .
و لن أنسى أبدا ما حدث حينما اصطف الأطفال في المرة الثانية أمام إطار التسلق , فقد استطعت يومها أن أتسلق كل الدرجات , و نظرت بسرور إلى كل من سخر مني من قبل , و ها هم الآن يقفون و أفواههم فاغرة من فرط دهشتهم.
و كانت أمي تتبع معي نهجاً واحداً في كل شيء و هو : أنها كانت تلح علي بضرورة إيجاد طريقة لفعل أي شيء مهما كانت صعوبته بدلاً من أن تقوم هي بأداء هذا الشيء أو التماس العذر لي , و أحياناً كنت أغضب منها بسبب ذلك , و أقول في نفسي : " إنها لا تعرف مدى معاناتي و لا تهتم بالمشقة الهائلة التي أواجهها في فعل أي شيء".
إلا أنني كلما واجهت متاعباً في الحياة , و أدخل إلى حجرتي لأنتحب و أبكي , أجد أمي تسألني برفق و حنان : " ماذا بك ؟ " , و بعد أن احكي لها عن السبب , تسكت برهة ثم تقول : " لا عليك , فسوف يأتي اليوم الذي تثبتين فيه جدارتك الفائقة للجميع " , و في مرة من المرات كان في صوتها بحة و حزن عندما حدثتني , و نظرت إليها فرأيت دموعها سالت على خديها , عندئذ فقط أدركت مدى معاناتها من أجلي , و علمت أنها لم تكن تجعلني أرى دموعها أبداً و ذلك حتى لا أشعر بالأسى لما أصابني .
و خلال رحلة حياتي , كانت أمي هي سندي في الحياة , كلما أردت أن أبكي كانت تواسيني و تهدئني . و عندما كبرت , وجدت وظيفة رائعة , ثم تزوجت و عشت حياة أسرية سعيدة , و أصبح لدينا أربعة أطفال .
و قد توفت أمي رحمها الله قبل سنوات عديدة بعد إصابتها بسرطان الرئة , و لا أزال أذكر أنها علمتني الإجابة لسؤال مهم , فعندما كنت طفلة , كنت أتساءل : لماذا أجهد نفسي لهذه الدرجة ؟ , و الآن أعرف الإجابة , إن المصاعب و المشاق هي التي تصنع الإنسان , و لقد علمتني أمي الشجاعة
اللّهم لك الحمد ملء الأرض والسماوات ولك الحمد ملء ما شئت من شيء بعد.