أكثر الأمهات اليوم يَخَفْنَ من عملية التربية ويرينها "المهمة الصعبة"، فلا يحسنها إلا القليل ولن ولا ينجح فيها إلا الأقل، ويحسبنَها تحتاج إلى علم وتخصص... وأينما توجهت أسمع الشكوى من "تغير هذا الجيل وتعذر السيطرة عليه".
فهل التربية "مهمة عسيرة" فعلاً؟
لاحظت مما سمعته ورأيته أن آباءنا وأجدادنا كانوا يعتبرون التربية أمراً سهلاً ويسيراً، وكانوا موقنين أن في مقدور الآباء والأمهات تحمل مسؤوليتها والقيام بها. ومن قديم الزمان وحتى أمس القريب كان الناس يربون أولادهم بطريقة تلقائية، أي كما رأوا وسمعوا وألفوا. وأكثرهم يربّي ابنه كما رُبِّي هو، ويسلك كما سلك الذين من قبله بلا تمحيص ولا دراسة؛ فمن الآباء من يعطف على ولده ومنهم من يقسو، ومنهم من يُعلم ابنه الفضائل ويبغي خيره ومنهم من يتركه هملاً ولا يوجهه... وهكذا كانت عملية التربية تتم عندهم على السجية، بلا دراسة لعلم النفس ولا لأصول علم التربية، ومن غير اعتبار لمشاعر الأطفال وأحاسيسهم.
وقد أدركت أنا شيئاً من هذا في تربية والديّ لي، وسمعتُ من أبي ومن جدي ومن أقرانهم كيف ربُي الجيلان السابقان، فلاحظت أن أكثر الذين سبقونا من الآباء كان أكبر همهم إنشاء رجال شجعان أشداء قادرين على التكسب، ولذلك لم يضعوا العواطف في حسابهم وهم يربّون، ولم يراعوا ميول أبنائهم ولا رغباتهم، فقسوا غليهم وجاروا وأجبروهم على تحمل المسؤولية صغاراً، وجعلوا تلك الغاية (الشجاعة والقدرة على إعالة الأسرة) مبلغ علمهم وعملهم وسعوا إليها بشتى الطرق، ولم يبالوا بجودة الوسائل المستعملة ومدى صلاحيتها! ومع ذلك وُفِّق أكثرهم في مهمتهم، ورغم أخطائهم نجحوا في تربية أبنائهم بلا عُقَد نفسية وأنجبوا رجالاً ونساء يشار إليهم بالبنان.
وفي زماننا يبالغ الناس في اتّباع أساليب التربية الحديثة وفي مراعاة مشاعر الصغار ومحاولة فهمهم والعيش في عالمهم والتفرغ لهم ومسايرتهم في كل أمر والمشي معهم خطوة خطوة ومراعاة ميولهم وشخصياتهم وأهوائهم... ورغم ذلك ما حظينا ببغيتنا ولم نحصل على جيل فريد كالذي خططنا لنيله، وتضاءل عدد الخلوقين والنابغين وكثرت الأمراض النفسية بين الأبناء، وخرج الجيل عن السيطرة! فهل من المعقول أن تكون الأساليب التربوية القديمة القاسية أجدى وأنفع من الأساليب الحديثة المدروسة والمجرَّبة؟!
القدماء كانوا لا يعرفون شيئاً مما نعرفه اليوم عن التربية ولم يدرسوا ما درسناه ولم يستعملوا ما استعملناه من الوسائل والأساليب إلا أنهم نجحوا أكثر مما نجحنا.
ولقد كان كل فرد في القبيلة يتحلى بالصفات العربية الأصيلة المحمودة، ولم نسمع مَن شذّ عنها من الأبناء إلا فيما ندر. ولقد كانت الأمهات الجاهلات يربّين الأطفال بشكل جيد، وكان الرجال الأميون يصنعون من الولد الصغير رجلاً قوياً، ومن الجبان الرعديد مِقداماً شجاعاً، ومن البخيل يستخرجون الكرم... فما بالنا اليوم نعجز عن التربية بعد أن تعلمنا ودرسنا ووعينا، وكيف نستصعب عملية التربية وقد توفرت لنا كل الإرشادات والتسهيلات، وبعد أن أصبحت تجارب الآخرين بين أيدينا؟
لعل السبب في استرهاب "التربية" يكمن في الطريقة التي صارت تقدَّم فيها إلى الأمهات الجديدات؛ فحين أعطوا عملية التربية -فجأة- كل هذا الاهتمام وكثفوا فيها البحوث وضاعفوا عدد المؤلفات وصنعوا لها الدورات واقترحوا أن تُدرَّس في الجامعات... أحاطوها بهالة من القدسية فجعلوا الناس تهابها وتستعظم القيام بها! واليوم وبعد أن تقدمت العلوم وتعمقت وظهر التخصص صعّبوا الموضوع وعقَّدوا الأمور، وخوّفوا الآباء والأمهات أكثر وأكثر، وجعلوهم يعتقدون أن عملية التربية شاقة وعسيرة ولا يستطيع القيام بها إلا قليل من قليل!
لقد أصبحت التربية اليوم واحدة من العلوم، وقُعِّدت لها القواعد وألفت الكتب، وأقيمت الدورات وصدرت المجلات، وانتشرت -هنا وهناك- الاختصاصيات الاجتماعيات وعيادات الأسرة لتعين الوالدين وترشدهما... والسوق ممتلئ بالأشرطة المسموعة والمرئية التي تشرح ذلك، والمكتبات حافلة بكتب التربية، وأينما اجتمعنا -نحن النساء- وجدنا الأمهات خائفات من هذه المسؤولية، وكل واحدة فيهن تتقصى وتسأل باهتمام عن الطريقة المُثلى لتربية الأطفال. فهل تحتاج تربية طفل إلى كل هذا التوتر وهذه الحيرة؟
من تجربتي في التربية أقول وبكل ثقة: صحيح أن التربية حمل ثقيل ومسؤولية عظيمة وتتخللها المصاعب، إلا أن التربية ليست "مهمة عسيرة"، أو "المهمة المستحيلة"، ويستطيع أكثر المربّين القيام بها، بل يستطيع سائر الآباء والأمهات -بلا استثناء- تأديتها حقها وعلى الوجه الأكمل لو أرادوا. وإذا كانت البلاغة من "السهل الممتنع" فإن تربية الأطفال من "الصعب الممكن"!
إن عملية التربية تنحصر في أمور قليلة ودور الأم والأب فيها محدد بنقاط واضحة وبسيطة، والسبب أن الأطفال يولدون مهيئين وعلى تربية عالية!
__________________